أيها الزائر قبري .... أتل ماخط امامك

Sunday, November 12, 2006

لاأحد ينام في العناية المركزة

لماذا أحب البالطو الأبيض المفتوح؟
لأنه يعطي - كما اعتقد - انطباعا للمحيطين بأنك طبيب محنك مفترس لاوقت لديه للتزرير وممارسة باقي تفاهات المستجدين ... ربما لأني بطبعي اكره غلاة التأنق والحنتفة ... وذاك الهاجس المستمر بأن القميص غير مستقر في البنطال ... وانه غادره الى براح العالم بعد صراع مستمر في المواصلات والطوابير اليومية
سؤال قفز الى ذهني عندما رمقني الاستشاري العظيم بنظرة لائمة على البالطو المفتوح باستهتار كاشفا عن قميص مدلى خارج البنطال الجينز بحرية ... لسان حاله يقول .. ليس هذا بطبيب , انما هو بلطجي مخضرم
اقفل البالطو .... انت دكتور مش عربجي
تعلمت بعد فترة وجيزة من بدء عملي ان اكره العناية المركزة ... احساس داهم بأنه ذاك المكان الذي يقضي به المريض بعض الوقت البائس لينتقل بعد ذلك بنجاح مطلق من العناية المركزة الى العناية الالهية
علل ... يفقد الطبيب مع الوقت حساسيته تجاه الموت ؟
ربما هو مرض التعود ... ان المرضى يأتون ويذهبون ... والناس ستموت بلاتوقف الى يوم الدين ... لم يحتفظ مريض معين بذكرى خاصة تجعله مميزا؟... ويجعل المك عليه ذا معنى ... انما حزنك الاساسي هو حزن المقامر على فرسه الذي خسر السباق ... حزن عملي صلب ووقح الى حد ما ... صدمة العالم في نتائج تجربته الفاشلة التي يعلم ان غيرها ينتظره في اطراف المعمل
اعتقد ان مشاعر الصدمة لدى الموت تختفي بهدوء ... ويحل محلها خبرة ناشفة تسمح بالانقاذ المتجرد من اللوعة البشرية العادية ... وان كنت ارتبك عندما يسألني اهل مريض عن حالته المتردية وعيونهم تنبض بأمل زائف .. أمل قضى عليه تماما انعاش قلبي فاشل أو موت حتمي بجذع المخ ... امل لازال راضخا لدراما تلفزيونية عبيطة
لو الاربعة وعشرين ساعة الجايين عدوا على خير حياته هاتبقى في خطر
ربما جملة من هذا القبيل ... لا .. لاأملك بعد تلك الجرأة لمصارحة ذوي المريض بالوقائع الأليمة ... لا احتمل بكاءهم وصراخهم من خلف باب اقامتي المغلق ... عويلهم اشد وقعا من جثة باردة ملفوفة بملاءة بيضاء صادمة تنتظر في الممر انتهائي من كتابة تقرير الوفاة
انسى قليلا هواجسي عندما يلتهمني الاخصائي ... خلصت المرور ولا لسة ؟ .. يلا نشييت الحالات دي... ؟ طب اكتب انت التقرير دة ... سرير 5 ضغطه لسة عالي ليه ؟ ... مافيش كنبة في الاستراحة ... أمال احنا هاننام فين؟ ... وهو من امتى كنا بنعرف ننام في العناية يابيه؟
يستوقفه السرير السابع ... مالداعي الملح لاحتجاز حالة نزلة شعبية يمكن علاجها منزليا ؟ ... لغط وهمسات بين الاخصائي والتمريض ليعلم ان السرير السابع هو سرير الرجل المهم ... ربما قريب من اقارب المهمّين ... (باعتبار ان كلمة المهمّين كلمة كافية وافية معبرة عن سلطة جارفة تتمتع بحقوق فوق العادة لاتمنح في الاحوال الاخرى كما ورد في عبد المجيد الصحاح) ... بدليل زيارات في غير الأوقات المسموحة والاتصالات الكثيرة والمرور المكثف من اطباء لاتعرفهم لكنهم على مايبدو استشاريين فطاحل على علاقات واسعة بمسئولي اجهزة الدولة الداخلية الحساسة ... يناسبني ان اتجنب هذا السرير تماما ... فاخرين يموتون (وغالبا سيموتون) ... بحاجة الى الوقت الجاد بعيدا عن واحد لايعجبه ان(شخشخة) صدره اثناء الكحة لاتروق لمسمع المدام
اتعلم ؟.. ربما صرت اكره العناية المركزة لأن الأمور لاتسوء فيها الا اذا كنت بحاجة ماسة للنوم
يرن جرس الهاتف ... الاستقبال كالعادة يعلن عن حالة بحاجة للعناية المركزة .... لابد من نزول احدهم ... وبعد عشر دقائق كاملة تقتحم النقالة باب العناية بجلبة متوقعة وصراخ ملتاع يخمده قليلا باب العناية وقد التقى مصراعيه ... هناك بعض الكلفتة المتوقعة ... كأنبوبة حنجرية نزعت من فم المريض بعد تثبيت مهمل وكانيولا مسدودة عقيمة.. ونقص حاد بالمعلومات عن الحالة التي لاتعرف عنها اكثر من كونها حادثة بالطريق السريع ... مع اشتباه بكسر بقاع الجمجمة .. كانت فتاة بالعشرينات لم تخفف الدماء المتجلطة على وجهها من جمال ملامحها
كالعادة ... يتعامل التمريض بسرعة في تمزيق الملابس بالمشرط وتعليق المحاليل وتثبيت اقطاب جهاز رسم القلب ريثما ينتهي الطبيب من تثبيت الأنبوبة الحنجرية وملاحقة المونيتور المتوتر ... هذه المريضة ستحتاج في الغالب لجهاز الصدمات الكهربائية ... امسكت باقطاب الجهاز المشحون وثبتتها على صدر المريضة قبل أن القي بنظرة امل اخيرة على المونيتور ... صحت بالجميع ان يبتعدوا ... وافرغت الشحنة ..... 0
__________________________
البالطو ياعربجي ... 0
صياح مألوف لكنه يأتي من عالم بعيد ... صدمة عنيفة اجتاحتني كأنها تمسك بعضلة قلبي بجنون وتعتصره قبل أن يختفي الوجود ... هل انا أموت ؟ ... افتح عيني لأجدني ممدا بجوار النقالة ... أين ذهب التمريض والأطباء والمسعف الغلبان؟!! ... ماالأمر؟ ..... غرفة العناية نفسها خالية من المرضى الا من فتاة العشرينات الجميلة ونور ازرق خفيف يحيط بالجدران
نهضت ببطء لألقي نظرة على المكان لأجد الفتاة مستلقية وحية كأحسن مايكون ... بملابسها السليمة وبدون اقطاب أواسلاك أو محاليل
اشارت للبالطو المفتوح باسمة وقالت برقة
مش تخلي بالك يادكتور ؟
نظرت للباطو قبل أن افهم .... ان البالطو المفتوح باهمال والمتدلي ليلامس النقالة المعدنية قد استقبل الصدمة الكهربائية التي انتقلت اليه عبر الألياف الصناعية التي تحفل بها خامته الرديئة .... تلك كانت صدمة كهربائية التي كانت تخلع قلبي
صوت عجيب من خارج العالم يصيح
هية المشرحة ناقصة قتلى؟
نظرت للفتاة ولم ارد ... ماموقعنا بالضبط من خريطة الحياة ؟
الباب منين؟
كذا صحت قبل أن ترد هي بصوت باك
ارجوك لاتتركني وحدي ؟ ... انا اخاف اللون الازرق والبرودة وكل الاشياء الداكنة في هذا العالم الجديد .... كم مرة تركت مريضك بعد ان مات ؟ ... اتحسبه لايشعر ؟ .... اتحسبه همد بلا الام أو مخاوف؟ اتحسبهم في نوم ابدي ازرق ... يالقسوتك .... تنتظر مريضك الثاني ولم تبرد دماء الأول بعد .... انهم يلتفون حولك يادكتور ينتظرون يدا دافئة لن تشعر ببرودة عالمهم الصامت .... الم ترهم قبلا؟
لماذا سكتّ ولم اجيب ؟ .... أي هلوسة تلك التي احياها ؟ .... لماذا تركتها هكذا دون كلمة أو لمسة مطمئنة .... أم أنني بالفعل قد احترفت الوفاة؟
تواصل وهي تمد يدها برجاء نحوي
اكنت بحاجة لصدمة كي ترى ؟ ..... ان الشحنة التي مرت عبر قلبينا كانت واحدة ... لقد شعرت للحظة تماما ماشعرت به انا ... هل ستعود مرة اخرى ؟ ... هل ستتركني وحدي في هذا العالم ؟ .... ارجوك .... انا اخاف البرودة
صوت خافت اقرب لباب يفتح ثم يغلق ...التفت حولي لأجد رجل السرير السابع المهم يتلفت حوله في خوف ثم ينظر لي ببعض الرجاء المقنّع ببقايا كبرياء المهمّين المقيتة .... اراه في طرف الغرفة يقبع مستكينا , واتذكر يوم دخل العناية في ضوضاء عظيمة مع حاشية مدججة بالمحمول واللاسلكي
انهم يتركون خلفهم جلبة هائلة مع انهم يدخلون هنا في صمت عجيب
انظر للفتاة ... ربما احترقنا قبل أن تنطفيء شعلتنا و صرنا مع الوقت اشكالا عبيطة جامدة كبقايا الشمع الذائب
يعني خلاص يادكتور .... ؟
خلاص ياماما
كم مرة لطمتني تلك الجملة من أم ملتاعة , أو اخ مفجوع ... يحاول عبثا ان يفهم ان روح العزيز الصاخبة قد انتقلت مع اخر انفاسه الى فضاء العناية .... ربما تشكو الغرفة من الازدحام ... من بقايا ارواح لم نعد نراها ... ولم نعد نستشعر معنى لجملة (البقاء لله) الروتينية التي نتلوها على مسامع المكلومين ...
اقتربت يدها جدا ... أوشكت ان تلمسني وانا شبه مغيب عن العالم .... بدأت اشكال كثيرة تظهر في جو الغرفة , بعضها مألوف ... وبعضها لااذكره .... كانوا يدنون ببطء وعلى وجوههم نظرة امل لم ادر سببها .... لكني عرفت اين اكون .... غرفة مزدحمة بأرواح نسيتها ... نسيتها عندما احترفت روتين الموت والعزاء ... روتين التقارير التي تحرص على كتابتها وتقفيلها بجودة عالية تحميك من المسئولية
خلاص يادكتور
شعرت بصدمة مألوفة ترجني من جديد ... تلك القبضة المميتة التي تهز اعماق روحك ..اخر مارأيته كان ايد ممدودة ووجوه باسمة ... ارتفعت في سماء الغرفة التي بدأت تتحول للاظلام التام ... ثم مشاهد متعاقبة سريعة من سقف ابيض مألوف , وشاشة مونيتور .. وجهاز صدمات , وبقايا سرنجات مبعثرة في الفضاء الداكن ونقطة دم في الخلفية تتضخم تدريجيا لتغطي الموجودات
خلاص ياجماعة ... رجع اهو
بدأت الاضاءة المؤلمة تغزو عيني لأجدني ملقى على سرير بالعناية وطاقم الانقاذ يتنهد براحة والاستشاري العملاق ينظر لي لائما
مبسوط ... ابقى لمّ البالطو ياعربجي
جمل اخرى سريعة لم اميزها متبادلة بينه وبين التمريض ... القي نظرة على الفتاة , وجدت الملاءة البيضاء تحتوي جسدها بالكامل
خلاص ياماما
ربما لم تكن هلوسة كاملة ... لكني ولأول مرة منذ فترة اعلم ان مريضا ما قد يترك لديك ذكرى خاصة ... لم تكن تلك فرس سباق خاسر أو تجربة فاشلة نعبر عنها بحيادية باردة عندما نتكلم عن ( الحالة اللي دخلت) و (الحالة اللي ماتت) و (سرير 7 نفسه مش حلو) 0
بالمناسبة .... لقد مات صاحب السرير السابع المهم ... مات في نفس التوقيت الذي كنت غائبا فيه عن العالم
أنا أخاف البرودة
ربما لم تكن هلوسة حقا
لكني تعلمت الا اكره العناية الى هذا الحد قدر ماأكره برودتها ... واعلم ان اخرين لاأراهم يعانون من برودتها واضاءتها الخافتة نوعا
تعلمت ان احكم غلق النوافذ ... وان احترف الحزن واحترم صراخ البائسين خارج ابواب العناية
تعلمت ألا أكره العناية تماما ... وان كنت الى الان , أعجز عن النوم فيها
تعلمت الا اعطي ظهري لغرفة فقدت فيها مريضا ... وتعلمت ان اردد داخلي ...0
يمكنك اليوم الا تخاف
اغلقوا العيون ... احكموا الملاءة ... وارخوا الستائر
فبامكان المونيتور الان أن يستريح
_________________
ارجوك .... لا تتركني ثانية
;