أيها الزائر قبري .... أتل ماخط امامك

Saturday, October 11, 2008

البنج.... قصة قاتل

جفنه......علّم الغزل
اللحظة التي تقرر فيها أن الحياة لم تعد بهذه الأهمية .. ومشوار عمرك لم يعد فيه مايستحق ..وجعبتك قد فرغت أخيرا من الأحباء والأصدقاء هي اللحظة المناسبة تماما كي تموت
(قول مأثور... ليس له أي علاقة بألبير كامي)
ألم تمر عليك تلك اللحظة التي تمنيت أن تمارس فيها أي مهنة سوى تلك التي تعمل بها حقا؟ مكان غير المكان .. وزملاء غير الزملاء .. ونظام مختلف كليا عن هذا الذي ألفته لحد الملل القاتل؟
للأسف لم أملك يوما هذا الترف ... لكن لهواة التغيير ...أعتقد أني سأمنحهم هذا (الأوبشن) الآن
أنت الآن تمارس مهنتي الكئيبة في يومك الأول
أول مرة ...أصعب مرة ... شد حيلك
بخطوات مرتجفة تحاول اخفاءها ببعض الكبرياء والوقار .. تسير في طرقات المستشفى الكبيرة لانهاء بعض الأوراق
لقد وصل نائب التخدير الجديد
(العوالم جم... العوالم جم)

تتوقع بعض الحفاوة ... بعض الترحيب ... لكن مجيئك لايثير الدهشة أو الفرح .. يوجد منك الكثييييييييير بالداخل.. وكما يفعل الأسطى الحلاق .. والأسطى الميكانيكي .. والمعلم الجزار فور وصوله للدكان .. تخلع ثيابك الملكي الشيك .. وترتدي بتؤدة بدلة العمليات التي كانت خضراء قديما ثم توفرت منها ألوان عديدة تتراوح بين البني والأبيض والكحلي والنبيتي (حريمي بعض الشيء.. ياللمسخرة!!) ..والرصاصي .. تدخل العمليات لتجد أغلب زملاءك يرتدون الكحلي .. ولوهلة تتصور انك في احدى حلقات (بريزون بريك) قبل أن تكتشف أن المرضى المستعدين للعمليات بتلك الملابس الحقيرة المفتوحة من الخلف كاشفة عن أدق أسرار العملاء ..هؤلاء لايتواجدون سوى في مكان واحد
"يادكتور فلان ... العيان في الأوضة"
نعم نعم...أعرف .. العيان في الأوضة .. والعبارة في الشيكارة ... والختم في الدرج .. وأحدهم يجذبك من رقبتك ليرميك في الغرفة المعقمة ويستعد لجعلك تشرب (الصنعة) شربا
"أنت اشتغلت تخدير قبل كدة؟"
يقولها النائب الأكبر بتشكك ...والسؤال تحصيل حاصل .. أنت في النهاية حمار لاتفقه شيئا .. استعد اذا كي تلتقط الحرفة من (الاسطوات) ...تصطدم عينك بعينه الحازمة ... وتلتقط الماسك لوضعه على وجه المريض .. تزداد نظراته صرامة وهو يقول
"افتح الأوكسجين الأول"
أرجوك .. لاداعي لتلك النظرات القاتلة
جفنه....علّم الغزل
وعندما تتعلم أول تكنيك ناجح في حياتك (تركيب الكانيولا ...تركيب الأنبوبة الحنجرية(التيوب) ..منح البنج النصفي بنجاح ).. تطير فرحا .. وتشعر ببعض الثقة تعتريك ..بضعة أيام وستصبح العملاق المسيطر على هذا العالم ...لكن أخطاؤك القادمة ستخبرك بما لايدع مجالا للشك أن الأمور ليست بالسهولة التي كنت تحسبها
"البنج أدب ... مش حط (تيوب)0"
لكن صدقني ..لن تظل الأمور بهذا السوء ... رويدا رويدا سيمنحك النائب الأكبر ثقته .. وسيسمح لك بممارسة عملية التخدير بمفردك ... وبعد أن كان يرقد فوق كتفك .. سيراقبك من بعيد ..ثم يكتفي بالجلوس في استراحة الأطباء .. ثم تجد بعد فترة أنه قد ترك لك الجمل بما حمل ..وقرر أنك شخص يعتمد عليه
أنت الآن ...تستطيع تخدير الناس بأمان
وعندما يأتيك النائب الجديد المرتبك .. تمارس معه نفس الألعاب القديمة دون سبب منطقي
"افتح الأوكسجين الأول ... ياطروبش"
وقت العمل ... وقائمة عمليات طويلة تنتظرك ... والجراحين ينادونك كي تخدر مرضاهم مخاطبين اياك بأدب واحترام ويناولونك الأدوية والابر بتواضع مدهش ... لاتخطيء الفهم ... انه أدب من النوع الذي رأيته في المشهد الأخير من فيلم (حافية على جسر من الذهب) ... عندما يفتح الحراس الباب لميرفت أمين بأدب فائق ... أنت في حقيقة الأمر متجه الى (عزيز) الذي لايرحم العذارى .. وهو الأمر الذي ستتأكد منه بمجرد أن يغلق المريض عينيه
جفنه علّم الغزل
اليوم لايمر بدون المشاكل المعتادة ...مريض يصاب باختلال في ضربات القلب بسبب الغاز المخدر ... آخر يصاب بانقباض في الشعب الهوائية وكمية الأكسجين المطلوبة لاتجد طريقها للرئة ... المريض الذي يتقيأ نائما وتنقذه في اللحظة الأخيرة قبل أن تتسلل محتويات معدته الى الجهاز التنفسي ... الولادات القيصرية وسيدات في منتهى البدانة تكتشف دائما ان تخديرهم كليا سيكون في غاية الصعوبة وأن التخدير النصفي يحمل مخاطر أخرى عديدة ...دعك من أمراض المرضى الموجودة بالفعل (الضغط والسكروقصور شرايين القلب والحساسية الصدرية وامراض الكبد والكلى ومرضى المخ والأعصاب و...و...و...) ...التوقف المفاجيء لقلب المريض ومايتبعه من محاولات الانعاش في جو ضوضائي مفزع وأناس مهرولون وهم يجرجرون جهاز الصدمات الكهربائية الكئيب جرا... الموت يتحول تدريجيا الى شخص مألوف يتواجد في محيط حياتك كموظفي المستشفى , وعامل الأوفيس ... و الرجل الذي يمنحك الجزاءات ... 0
الموت .. انه مجرد موظف آخر في هذا المكان
(عبارة متحذلقة ... ليست لباولو كويلو)
يغيظني أن محاولات تفادي الموت .. غالبا لاتؤدي الا اليه...وعندها تكتشف أنك تجري بسرعة مخيفة في أعماق نفق مظلم في نهايته هذا الموظف الكئيب الذي يسكن المكان ... موظف مقيم ... ينتظر هناك دوما ,رغم أنك كنت طوال الوقت تخطط للهروب من بين أحضانه .. وتخطط لتفادى لدغاته المميتة .. كأنه كابوس .. أو مرض غامض .. أو فيروس مخيف متسلل
Resident Anaethesia ..... Resident Evil
الآن انظر لنفسك ببعض التدقيق ... ستعرف أنك طوال الوقت كنت تهرب من شيء ما لاتعرفه .. تغيب أكثر وأكثر في نفق مظلم عميق دون قدرة على التوقف ..محاولاتك المجنونة للنجاح والبقاء حيا ,تلك التي تعميك عن الرؤية فعلا ... تتفادى بها أنياب الآخرين .. ربما تمنحهم بعضا من عضاتك القاتلة كذلك ...تبحث عن السيطرة واجادة التكنيك .. تورث كل هذا لمن يليك في سلسلة التطور...ثم تتساءل في أوقاتك الهادئة عن سر السعار الذي أصاب العالم... تشغل نفسك بمحاولة الافلات من الموظف المقيم اياه... هذا الذي ينتظرك في أعماق النفق ...ومن حيث كانت رحلة الهرب , تأتي رحلة السقوط في براثن فيروس (ريزدنت ايفل) اللعين الذي يحيلك الى شخص نصف حي - نصف ميت .. يسير متهالكا مترنحا... مجرد باحث آخر في الطابور .. باحث عن الطعام ,عن البقاء ,عن آخر تنقل له ذات العدوى
أيا كنت .. وأينما كنت...في مكتبك .. معملك ... ضيعتك الواسعة... دولتك التي تحكم
الفيروس الذي تجاهد لمحاربته يصيبك من حيث لاتراه عيناك...0
جفنه علّم الغزل ..... ومن البنج ماقتل .0
(أغنية قديمة ليست لعبد الوهاب)0
صدقني عندما أخبرك أني أحاول الخروج جاهدا من تلك الغيبوبة .. والافلات من قبضة المرض السخيف .. ومن ظلال الغيبوبة .. اراقب -ضاحكا- نائب التخدير الذي علمته يوما وهو يستقبل النائب الجديد الهش في غرفة العمليات .. وبغلظة يلكزه في كتفه قائلا جملة مألوفة لحد الملل
"افتح الأوكسجين الأول ... ياجعر"0
بصراحة ..... لست في حاجة الى ( الأوبشن) الذي منحتك اياه في البداية ...0
انت تجري أغلب الوقت هاربا
لكن فيروس (ريزدنت ايفل) قد أصابك منذ زمن
مرحبا بك في النادي
;