أيها الزائر قبري .... أتل ماخط امامك

Saturday, December 20, 2008

الناس التانيين

هذا البوست ليس دعوة لشيء ... بقدر ماهو محاولة لفهمه

وليس لاغضاب أحد ... برغم اعتقادي أنه سيجلب الوبال على كاتبه

__________________________________

تأخرت كالعادة ولم تكن الأمور بيدي

هذه المرة ... كنت في السجن

__________________________________

قال لي الحسيني وهو يشعل سيجارته رقم 143 في حجرتنا المغلقة

لاأريد أن أكون بطيء الادراك ... لكنني بدأت أفقد احساسي بالزمن ... ولولا نفاذ سجائري لما شعرت بمرور الوقت

يمرر لي واحدة لكني صارحته بأنني من عشاق التدخين السلبي .. يتابع ببطء

أنا أخشى هؤلاء الموجودين بالخارج ... أخشاهم كالموت .... كالسرطان...كالكليوبترا الرديئة .... كعناكب أمريكا الجنوبية و أمواس الحلاقة المستعملة والعملاق الأصلع المخيف الذي شاهدته في فيلم السهرة ... أخشاهم .. وأعلم أنهم قادمون .. ولاأدري كيف أتفادى هذا أو أتعامل معه ...

صوت كعوب الأحذية والضحكات بالخارج تغزو عالمنا الباهت ... ولبعض الوقت .. عرفت أنه يمقتهم قبل أن يرى وجوههم

______________________________

الساعة 11 ونصف صباحا

انه ذلك الوقت الذي تسمح فيه لنفسك بتأمل العالم من خلف النافذة .. ومع أن نفسك مليئة بالحب والاشراق .. لكنك تحتاج أحيانا الى التسلح ببعض الكراهية .. والا ... فبم تفسر هذه النظرة التي ترمق بها الباعة المزعجين وسائقي الميكروباص السفلة من خلف الزجاج؟ .. أتراهم خبيثي النفس .. يتمنون الشر والأذى لأفندي متعلم نظيف مثلك.. ؟!!

يقولون أن العين تعشق كل جميل ... لكن المؤكد .. انها تكره كل غريب

_____________________________

الدخان من فم الحسيني يملأ المكان ... لكنه يمنح شعورا عجيبا ببعض الأمان لأنك لاتري مايحدث خلفه حقا

دوما كانوا يزعجونني ... كلمة (الناس) ... هذا الكيان ذو الثقل والغزو الشامل ... دوما كنت أتخيلهم مجموعة متداخلة من ذوي الشعر الأكرت والشوارب الضخمة الخشنة ... بعيون متسعة ..,وأفواه لاتغلق .. وقدرة مطلقة على التدنيس.. يغمرونك بأشعة حارقة من النظرات المتهكمة , المتعجبة احيانا ... يتغامزون بينهم دون مبرر واضح .. تقرب عنقك نحوهم محاولا السمع دون جدوى ... ربما لو كنت أكرت الشعر مثلهم لأمكنك أن تندس وسطهم بسهولة .. وتفعم آخرين بذات النظرات وأنت تتغامز ممسكا شاربك الضخم .. فقط لتتفادى كل هذا الألم الذي تشعر به الآن

نخاف من كلام (الناس) .. (الناس) تقول علينا ايه .. (الناس) مالهومش أمان .. (الناس) بقت وحشة أوي

صوت سباب بالخارج .. ينظر لي الحسيني نظرة ذات معنى , ويغمس سيجارته في علبة معدنية صدئة... يردد

ان المكان بالخارج ليس بهيجا على الاطلاق

___________________________

الساعة 11 ونصف صباحا ... حتى بعد الظهر

هل سألت نفسك قبلا ... ماالشيء الذي تقاتل من أجله حقا ؟ ... الشيء الذي تردد اسمه باخلاص أو تموت في سبيله .. أو تسهر الليالي متعبدا في محرابه متحسسا مشعلك , أو مسدسك , أو مطواتك القرن غزال وأنت على استعداد تام لتمزيق الآخرين ممن يفكرون .. فقط يفكرون في مجرد الاقتراب .. أو التصوير

بعض الناس لاتعتبر ايمانها مكتملا ... الا بالكراهية

___________________________

يستلقي الحسيني على سريره ويحملق في سقف المكان متسليا بالعبث في شعرات صدره ... يقول لي دون أن ينظر

أتعلم أمرا ؟ .... لو كنا أكثر عددا لكان أفضل ... ربما لأنني سأشعر ساعتها بالأمان .. وبأنني لست مجرد شخص واحد ... ان فكرة أن أكون وحيدا ترعبني حتى الموت

صوت مياه تلقى من دلو مملوء أرضا ... مياه باردة .. حتى في الشتاء

الحسيني يردد من جديد وهو ينظر لي برهبة

أنا ..وأنت ... فقط ... سيسحقوننا بسهولة ياصديقي

_____________________________

الساعة 11 ونصف صباحا ... حتى في وقت الأصيل

عندما تتجه للاستاد ... أرجوك خذ علما واضحا ...و لاتجلس في المدرجات الخطأ ... انه أمر قد يكلفك حياتك ...

اجلس ولوح ... صفق واصرخ

بييييييب .... بييييييب

أهلي

(الموت هنا للعشيرة البيضاء)

تتصبب عرقا كمحموم ... انها حمى الانتماء ... حمى أن تكون أقوى ... واعظم ... وأكثر ... اكثر من مجرد شخص ... أنت في الواقع 11 شخصا يجرون في الملعب ... بل أنت اكثر من عشرة آلاف شخص يهللون في المدرجات

بييييييب .. بييييييب

أهلي

(الموت هذه المرة للعشيرة الصفراء)

دع القوة تجري في عروقك ... لأنك الآن ... تملأ العالم

__________________________

يسألني الحسيني بجدية

هل تحب لعب (الاستميشن)؟ .... للأسف نحتاج آخرين ... معي ورق لعب ... لكن ينقصنا (كينج) القلوب .. أنا متأكد أن الأوغاد بالخارج يملكون الورقة الناقصة ... لاتبتئس .. من الجيد دوما ان تكون أكثر من 99 % من أوراق اللعب بيديك... ( من قال هذا يوما عن أمريكا؟) ... الأمريكان أنفسهم ملوا أن يظلوا اللاعب الأوحد على المنضدة .. فقرروا -لجعل اللعبة أكثر اثارة - طرح بعض الأوراق للبيع... أوراق مختارة بعناية... فهم لن يبيعوا أبدا (الآس) الذي يبحث عنه الجميع ...

حسنا .. أنا مشوش الذهن ..لكن تبدو (الاستميشن) وسيلة طيبة لقتل وقت أليم بغض النظر عن المكسب أو الخسارة .. المشكلة أن اللعب بورقة ناقصة .. يثير الجنون

________________________

الساعة 11 ونصف صباحا ... حتى عند صلاة العشاء

الشيء الذي يخيفك حقا .. أنك نسيت أنك تصلي فقط بحكم العادة ... ليس الايمان .. ليست الرغبة في التطهر .. بل الرغبة في ألا يمر عليك الوقت وأنت لم تؤدي (الواجب)

تصطف مع الجمع ... وترفع يديك المخدرتين مكبرا دون روح حقيقية لأن القلق بداخلك لايدع لك فرصة سوى للتفكير في كم الكلاب المسعورة التي تنبح خلفك ... مشاكل العمل ... لقد تأخر صرف الرواتب ومرور الشهر دون جزاءات لمعجزة حقيقية .. كم أتمنى ألا أحرم من الحوافز ... والايجار ..تبا !!.. هذا الأخير يتزايد كل عام ...والأسعار الملتهبة .. ستفسد معادلة التوازن بين النفقات والموارد ... فهذا يزيد .. وهذا يقل .. (الجيبات في الطالع والبنطلونات في النازل) .. من الشاعر الذي قال هذا البيت المشبوه؟ ... ذكرني أن نشتري ملابس للأولاد ... لماذا تزوجت؟ ... ان متطلبات المنزل تلتهم الوقت والجيب بشراهة... ميرام صارت مزعجة لحد غريب .. ترى أين ذهب هذا الحب القديم؟... هل انطفأ.. أم هدأ .. أم أن الواقع كان أقوى من شعلته المقدسة؟ ... ربما هي تعيسة ... فقط لو تبتسم بنت الكلب هذه لحطمت العالم من أجلها ... ربما أنا أيضا لم أعد ابتسم ... لماذا أشعر نحوها بالذنب والسخط في آن واحد؟ ...لقد فرغ الوقود من محرك حياتنا ... كدت أنسى ... سيارتي ليست على مايرام ... أين تجد الميكانيكي الذي يقوم بالمطلوب دون نصب أو جشع؟ ... عاطف يفهم في تلك الأمور .. تلك فائدة الأصدقاء ... فقط تضايقني نظرة التعالي تلك التي صار يملكها بعد الترقية... ان المسئولية قد تصنع بداخلنا وحوشا غير قابلة للترويض... أنا أعلم .. لكن ماذا عن الصداقة؟!... حقا .. ان صديقك الوحيد الحقيقي في هذا العالم هو أبوك ... اللهم أشفيه وارفع عنه ...هوووووب .. لقد انتهت الصلاة قبل أن أدرك .. السلام عليكم ورحمة الله

وعندما تخرج ... تكتشف أن الكلاب قد تركتك ..وأنك رغم كل شيء لازلت قادرا على الاستمتاع بالحياة... تعتبر نفسك متدينا لحد ما ... فأنت تحافظ على الصلاة ... وتتحرى الكسب الحلال ... وتحجب زوجتك وبناتك ... وتكره الفحش والسفالة ... في الوقت ذاته أنت متفتح و(سبور) وترحب بالاختلاف ... لكنك لسبب ما تملك عادة قديمة عندما تصافح أحدهم للمرة الأولى... تتفحص يده من طرف خفي

بحثا عن الوشم اياه طبعا

________________________________

يضحك الحسيني بسخرية وهو يعابث أصابع قدمه

أول مرة شاهدت فيها رجلا أشقر .. حسبته جاسوسا .. كنت في العاشرة حينها... ظللت أراقبه كأنما هو كائن فضائي ... كل حركاته تحمل غرابة من وجهة نظري ... وهو يتكلم ويأكل ويتمخط في منديله ... يالله !!.. كل هذه الشفرات والرسائل المستترة خلف البساطة ذاتها !؟... شعرت وقتها أنني (رأفت الهجان) ذاته ... وبحثت بصدق عن (محسن بيه) .. لأن الأمر أكبر مني ... ان مصر في خطر ..ولا بد أن يطلق أحدهم صفارات الانذار ... وعندما كبرت ..عرفت أي هراء كنت أعيش ... منذ أشهر قليلة عندما كنت خارج البلاد ..جلست في مطعم بالقرب من شاب يرتدي تلك الطاقية اليهودية المضحكة الشبيهة بقصرية مختزلة ... رائحة يهودية قذرة تفعم المكان ...تظاهرت باللامبالاة ورباطة الجأش لكن خاطرا مرعبا ملأ كياني .. يمكنني بالخطأ أن أشرب من ذات الكوب الذي كان يشرب منه .. وآكل من طبق أكل فيه قبلا ... هذه الفكرة جعلتني أترك المكان ... كأنني سأتحول أنا أيضا الى يهودي يرتدي القصرية ذاتها اذا لمست ماكان يلمسه قبلا .... كأنها عدوى باللمس ... الشيء الذي ضايقني حقا .. هو أن هذا الوغد كان يتفاخر بالقصرية علنا ...

كيف يجرؤ؟!!

______________________________

الساعة 11 ونصف صباحا ... حتى عند عرض أخبار التاسعة

دعك من التلفاز ... ان فضاء الانترنت الرقمي يكفل لك حرية أرقى بمراحل ...أكثر تشعبا وتعقيدا من قنوات موحدة الارسال والمنهج والرأي ...

سآخذك معي الى أكبر خدعة مارسناها على الويب ... خدعة الشخصية البديلة

النيك نيم ... شخصيتك الأخرى الرقمية .. ذات البروفيل المصور والبيانات المختارة

فيس بوك ... فيس أوف...

الخدعة المضحكة التي تراها جلية عندما تتأمل حقا ماخلف صفحات المنتديات والبلوجات والميسينجرات .. تأمل بدقة الأسماء والصور والتوقيعات لترى الخدعة الأعظم على مر التاريخ

في الفضاء الرقمي .. الكل فاضل وجميل ... الكل ساخر وغامض وعميق التجربة وحزين لأنه وحيد لم يجد من يفهمه لذا قرر أن يتحول الى شبح يهيم في فضاء الانترنت بحثا عن شيء يعلن مرارا أنه لن يجده ابدا

الكل يكره التسلط .. والاحتكار .. والكليبات التافهة ... والتحرش الجنسي ... والتمييز العنصري ... والتعصب

الكل يحب الفضيلة ... والخير ... والزرع الأخضر ... ويفهم الجمال ... ولابد أن هؤلاء الذين يعشقون القبح والفوضى والدمار هم آخرين من خارج هذا العالم ... هؤلاء الذين يملئون الدنيا صخبا وهلسا ويجوبون ممالك الليل كمصاصي الدماء

لكن اللعنة الحقيقية التي ذابت تحت جلودنا ..هي أن كل واحد قد استقر في غرفته الزجاجية معزولا عن الآخرين ... محاصرا بين السماعات والمايك والشاشة الساحرة الملونة ليمارس متعة الكلام عن الآخرين مرتديا اللباس المميز لهويته السرية ... تلك الهوية التي يحارب بها هزائمه المحتملة في عالم الواقع .. ويهرب بها الى نصر رقمي جديد

ثم يبحث عن أشباهه في هذا العالم .. وعندما يلتقون يصنعون معا مايعرف بالمجموعة أو (الجروب) ... ولأن الطيور على أشكالها تقع فان أفراد أي (جروب) في تزايد مضطرد ... تجمعهم رغبة أكيدة في اجتذاب المزيد من الاتباع , والبحث عن القوة والأفضلية .. ومن ثم تظهر الصراعات بين (الجروبات) لاثبات تلك الأفضلية ... و يبدأ تراشق الكلمات .. والاتهامات .. والحجارة

وفي (جروبك) .. تستمد قوتك الحقيقية من دماء الآخرين .. أن يكون الغربي عاهرا لأنك عربي ... أن يكون الخليجي عربيدا لأنك مصري... أن تكون النساء ناقصات عقل ودين لأنك رجل صارم كثيف الشعر لاأكثر ... أن تكون أهلاويا فيكون الزملكاوي كسيحا ... أن تتبرك بأولياء الله وتتحفز عندما تقرب الكنائس ... أن تكون مؤمنا فتكره الكفار ... وتكون سنيا فتكره الشيعة ... وتكون ملتحيا فتكره الفرافير حالقي اللحى ... وتكون أنت ..... فتكره من سواك

دوائر أصغر..... فأصغر ..... فأصغر

وفي أضيق حلقات الدائرة ... أنت معزول ... كأنك أمام شاشة كمبيوتر بين السماعات والمايك والشاشة الساحرة الملونة .. الوقت لايمر .. والساعة دوما 11 ونصف صباحا .. ربما لأن هذا هو الوقت الذي توقفت فيها ساعتك آخر مرة وأنت تتأمل الآخرين من خلف زجاج النافذة

ارفع علمك عاليا ... وردد بقوة مع (جروبك)

بيييييب بيييب ... أهلي ... المصريين أهمة... مصر دي بلد رقاصين ... ديني أحسن من دينك ... المجد لماركس... أكيد حرمة هي اللي سايقة ... كلنا ليلي ... ( ياسيدي قول كلنا لها)...حد مايحبش أم كلثوم ,القريب منك بعيد؟ (البعيد مابيفهمش) ... شعبولا هو الحل.. أنا وطني .. (وأنا فودافون)... اقف عندك , انت معانا ولا مع الناس التانيين؟ ... أنا معاكم ... أمال شكلك غريب كدة ليه ؟... ماغريب الا الشيطان .... قصدك تقول ان انت الشيطان؟

ياللسخرية ..!!؟ .. لقد تشابهنا من حيث قررنا الاختلاف !

___________________________

يقول الحسيني وعيناه تشتعلان بذكاء مهلك

أتعرف ماهي أقسى حقيقة عرفتها؟ ..أحيانا يكون أكثر الناس تعصبا هم دعاة نبذ التعصب أنفسهم.. لأن فكرة التعصب لديهم تتحول مع الوقت الى هاجس يملأ كيانهم ... أغلب الدعاة لقضية التمييز ضد المرأة مثلا .. يتصلبون تماما ازاء مايمس المرأة.. ويتحدثون باشمئزاز عن (الثقافة الذكورية) ... ويتعاملون مع مفردات هذه الثقافة باعتبارها غزو صريح لمملكة الأنثى الحصينة ... لاتكن قاسيا ... أعتقد أن البديل الوحيد المتروك أمام المرأة في هذا المجتمع العنصري هو ممارسة نفس العنصرية في الاتجاه المضاد دون وعي ... ان هاجس الفكرة يتحول بالتدريج الى هوس يجعلهم طوال الوقت متحفزين ضد هجمات الآخرين المحتملة وهم يتحسسون مسدساتهم من أسفل المنضدة الأنيقة

ان اللعبة لعبة أعلام وفرق لاأكثر ...

صارحته بأن آلام المثانة صارت لاتطاق ..وأنني أحتاج لفعل مايفعله الآخرين في هذه الظروف ... ينظر لي بشفقة

وساكت على نفسك ليه؟

يخرج مفتاح الغرفة من أسفل وسادته ويلقيه الي متابعا

اقفل الباب وراك ... نفسي أنام من غير ما يقولولي فيه حالات في الاستقبال .. الله يلعنهم

أغادر زنزانتي الوهمية في سكن الأطباء وأتفادى الأرضية المبللة التي يمسحها العامل العجوز بالخارج ...أصارح الحسيني بأنهم لايستحقون اللعن... لكنه لم يعلق ... وأدار رأسه للجهة الأخرى

أطفأ سيجارته ال257 ... وغط في نوم عميق

;