أيها الزائر قبري .... أتل ماخط امامك

Thursday, February 08, 2007

أن تكون طبيب تخدير

منذ سنين وقفت الى جوار طبيب تخدير محترم ... كان يمسك بمحقنين كتب عليهما اسماء الادوية الموجودة داخلها ... وقبل ان يحقن كان دوما يقول (يارب استرها معايا) .. يومها لم ادر لتلك الجملة التي كان يكررها روتينيا سبب واضح ... اظن انني بدأت افهم السبب هذه الايام
__________________________
أن تكون طبيب تخدير ... يعني انك مقبل على مقامرة ما , أو على فتح بطيخة لاتدري بالضبط محتواها كلما بادرت بتخدير مريض ... وأسوأ مافي الامر ان الكوارث عندما تأتي , لاتكون مصاحبة باجراس الانذار , ولاتتلون الشاشة بالأحمر كما في العاب الكمبيوتر والافلام ... اسوأ مافي المصائب أنها تأتي في هدوء ... وترحل كما اتت ... في صمت جليل
أن تكون طبيب تخدير ... يعني انك مضطر يوميا للكذب على اّلاف العيال قبل العمليات بدعوى لبس الساعة للتصوير (رباط ضاغط لوضع الكانيولا ) ويلا ننفخ البالونة ( استنشاق الغاز المخدر) ... ترى كيف كان شعورك مع عملية الطهارة التي تمت لك بعد خداع وتاّمر من أقرب الناس اليك؟
أن تكون طبيب تخدير .... يعني عجزك المستمر عن التركيز اثناء الصلاة بينما مريض ما في غرفة العمليات تحت تأثير البنج على مقربة منك لايلاحظه غيرك مع احساس مستمر بأن مصيبة ما في الطريق أو ان المريض قد انتقل في صمت الى الرفيق الاعلى , بينما الاخوة الجراحين لازالوا يمزقون الاحشاء وهم يتطلعون الى (الايمدج) / الأشعة بشبق وتوحش
أن تكون طبيب تخدير ... يعني ان علاقتك بمهارات الجراحة وخياطة الجروح التي كنت تعشقها ايام الامتياز قد ولّت ولم يتبق امامك من مهام الجراحة سوى محاولاتك المستميتة لفصل البرتقالة عن قشرتها باستخدام الملعقة البلاستيك العقيمة بعد الفراغ من وجبة عديمة المذاق في مطعم المستشفى
أن تكون طبيب تخدير ... يعني ان عادة سيئة تتكون لديك وهي التطلع باستمرار الى اوردة البشر في محاولة خيالية ملحة لايجاد افضل وريد يصلح لأضخم كانيولا ممكنة ... لي زميل طمع في عروقه شخصيا وقام بتركيب الكانيولا لنفسه لاطفاء نار الرغبة .. طب والله حصلت
أن تكون طبيب تخدير ... يعني أن تبتسم دوما لكل جراح وهو يعطي اللمسات النهائية على خياطة الجرح بينما يقول لك في ثقة (احنا خلصنا يابيه) ... وعندما تتأمل الوقت الطويل الذي قضاه صاحبنا في العملية دون داع سوى الخرق وقلة الخبرة , وتتأمل خياطة الجرح المشوهة , والدماء التي تملأ المكان بعد نزيف عظيم .. يكون ردك التقليدي الجاهز بعد كل هذا (ياباشا تسلم الأيادي) ... مرارا فكرت ان اغير الرد الى (تولع الايادي) ,لكن لا .. لم افعلها بعد
أن تكون طبيب تخدير ... يعني احساسك المستمر بأن كل من يناديك غالبا ليبلغك بكارثة ما خاصة بالتخدير ... تدريجيا صار عندي هاجس ان كل من يكلمني (حتى في الشارع أو لايعرفني اصلا) يقول لي في هدوء (الحق .. عايزين حد تخدير في أوضة 5) ... 0
أن تكون طبيب تخدير ... يعني أن الناس لم يعودوا يقسمون الى فئات حسب اللون أو الجنس أو الدين .. بل حسب لياقتهم للتخدير الى مرضى لايصلح لهم الا البنج الموضعي , ومرضى ينامون كليا بعد محايلات واستعدادات وتحسب للمصائب وخناق محترم مع الجراح , ومرضى في أسوأ حال من عينة (الراجل فيكم ييجي وينيمه) , ومرضى لاتوجد فيهم مشاكل من أي نوع ( والملاحظ ان اغلب مصائب التخدير تأتي من تلك الفئة الاخيرة , ولاتسأل عن السبب) 0
أن تكون طبيب تخدير ... يعني انك مدان قبل أن تبدأ أو تتكلم أو تتعامل مع اي كائن ... يعني أن تستسلم للفكرة الساذجة المكونة لدى الجميع بأنك (ذاك الرجل الذي يقتل المرضى بسبب الجرعة الزائدة) .... يعني أنك مطالب بايجاد أوردة لمريض مستعصي حاول فيه قبلك عشرون ممرضة وثمانية اطباء من تخصصات عديدة بعد أن قضوا على جميع الاوردة بمحاولات غشيمة عرجاء(من باب التجريب وامتحان خبرات أياديهم الطاهرة اللي عايزة قطعها) , والمفروض ان تجد الوريد بنجاح والا فان نظرة غبية ستتكون على الوجوه من عينة (أمال تخدير ايه بقة؟!!)... يعني انك الرجل الذي يحلوا للجميع الكذب عليه واخباره بأن المريض صايم وتحاليله زي الفل ومستعد تماما للعملية , (ربما الى درجة تزوير نتائج التحاليل) ... احد الاخوة البنجاوية سأل مريضا يوما (اّخر مرة أكلت امتى ياحاج؟ ) .. فتلفت الحاج اللئيم يمنة ويسرة متوجسا قبل ان يجيب في خبث ( انا لسة واكل من ساعة , بس والنبي ماتقول لبتوع البنج) ..!!. يبدو ان البعض لابد وأن يحاكم بتهمة الغباء على رأي السادات
أن تكون طبيب تخدير ... يعني انك متيقن من ان احساسك بالام الناس يقل تدريجيا بدءا من جو الرهبة المغلف لغرفة العمليات (بينما هي بالنسبة لك كجو البيت أو اكثر), مرورا بتركيب الكانيولا ( لأنك نسيت احساس ان احدهم يغزك باستمرار مطالبا اياك ان تصبر وتكف عن الدلع ... انها مجرد شكة كشكة الشنيور)... والماسك الاسود الكئيب المعبق ببقايا رائحة الغاز المخدر ( طبعا لأنك اعتدت ان تكون فوق الماسك لا أسفل منه بينما شخص تراه بالمقلوب عند رأسك يأمرك بالهدوء مع اخذ الانفاس العميقة والعد) لن يلومك احد اذا لطمته بغلّ وفررت هاربا من هذا الجحيم
أن تكون طبيب تخدير ... يعني أن وقتا طويلا سيمر قبل التدوينة القادمة لأن الاسبوع القادم حافل بالعديد من النوبتجيات والمفاجئات الغير سارة التي ستحتاج الى وقت قبل اعادة التوازن وممارسة الحياة الطبيعية
________________________
عندما أبدأ في كل مرة ... اسأل نفسي .... هل ستكون هذه هي المرة الأخيرة؟
;