أيها الزائر قبري .... أتل ماخط امامك

Thursday, October 12, 2006

حكايات من مستشفى أبو جهل التعليمي 3

الحلقة الثالثة
جعلوني نائبا
فقرة اعلانية .... احصل على المجموعة الكاملة للمسلسل ... حاليا على أقراص دي في دي .. الحلقات 1 و 2
سئل ابو جهل يوما عن أشد الاسئلة احراجا للطبيب الورور الأمور في مقتبل حياته الوظيفية ...فقال هو سؤاله عن مهنته , لأنه عندما يجيب في خفوت يمزقه سعال الارتباك قائلا دكتور ... يكون السؤال الحتمي القادم هو ... دكتور في ايه؟
انه التخصص ياعزيزي اّرثر ... 0
يحلم الطبيب الخريج (بعد نهاية مرحلة الاحلام الوردية بنيابة في مستشفيات الجامعة ) بنيابة والسلام تحمل هويته الجديدة بعيدا عن تلطيش السادة المفتشين في الأرياف بالوحدات الصحية ... وتمر عليه شهور وأعوام وهو لايزال في مرحلة الممارس العام التي سنصطلح على تسميتها هنا بمرحلة ( حمامة بتاع مصلحة التليفونات) ... لأنه كثير النقمة والزوغان , متلهفا على اعلانات النيابات والزمالة والتعيين لهفة العوانس الكسيحات على العدل , لذا تجده دائم التنطيط داخل أروقة الوزارة بين مكاتب السادة الغير مسئولين , دائم التوتر , تميزه بشنطته السمراء الكئيبة المعلقة على كتفه وذقنه النصف نامية ونظرة الشباب المعقدين نفسيا الحالمين بيوتوبيا لاتجيء ... ويزداد القرف والنقمة وتضمحل علاقته بالطب المحترم المذكور في الكتب أو الوارد في مسلسل اي . ار الشهير ... وبين يوم وليلة تضع عليه وزارة الصحة لاصقا ابيض كتب عليه اسم التخصص الذي سيقضي صاحبنا عمره في سبر اغواره وتعلم فنونه وفك مغالقه ورش دواخله ان أمكن ... كما قلنا سابقا .. تلك هي النيابة يااّرثر ( سنلاحظ أن اّرثر هو المشاهد الوحيد لتلك الحلقة على مايبدو) 0
عندما يتسلم حمامة بتاع مصلحة التليفونات نيابته العزيزة
وقد تكون غير عزيزة اطلاقا ... فقد يلبس نيابة في تخصص لايطيقه , أو مكان لايبغاه ... مش طايقاه يابابا ... لكن بابا الحمش لايرحم الفرافير ... وهنا لايجد حمامة بدا سوى التسليم بالواقع واستلام النيابة عن يد وهم صاغرون ... ويكون ذلك من أول و أهم التنازلات التي يقدمها في حياته العملية والتي ستتلوها تنازلات اخرى مخيفة في المستقبل ... وتصبح تلك أول قطعة ملابس يخلعها مترددا قبل أن يعتاد الاستربتيز الحياتي المعتاد
تجيء ثاني التنازلات عندما يستقبله مدير مقر عمله الجديد بابتسامة طامعة لاشك فيها ونظرة شبق مخيفة في عينيه عندما يجد رقما جديدا يضاف لعمالة المستشفى يمكنه الاضلاع باستقبال الحوادث في المخروبة التي تعاني عجزا رهيبا في أطباء الاستقبال كثيري التزويغ ... وتجده يقبل تلك النوبتجيات في خنوع عجيب ... لاحظ أن مهمة الاستقبال هي عينها مهمته الاثيرة العتيقة في طب الارياف ( وكل تخصص وانت طيب) بعيدا عن أن طب الطواريء يفترض ( أقول يفترض ) أن يكون أمرا محترما كما هو الحال في العالم المتحضر .... ورغم ذلك سيتحمل حمامة في صمت نوبتجيات الاستقبال الباردة مقابل أن يرى ولو للحظة الاخصائي الكبير المهم الذي سيعلمه أصول الصنعة التي استلم نيابته من أجلها
حكاية الطبيب الرابض والاخصائي المختفي
والاخصائي عزيزي اّرثر هو ذلك الرجل الغامض الحاصل على درجة الماجستير في تخصصه بعد أن أدى فترة نيابته وقام بتسجيل الدراسات العليا ... انه الرجل المهم الذي يأتي (أو لايأتي) اياما معلومة في الاسبوع .. وتتقدم به الأيام حتى يرد الى أرذل العمر ليكون استشاريا نعسانا عظيم الكرش ... 0
يكتشف النائب الغلبان أن مرحلة التعليم قد انتهت منذ زمن , وان سبيلك الوحيد للتقدم المهني على مسئوليتك الشخصية ... تعلم العلم واقرأ ... وعندما يحين موعد التسجيل ترتد مرة اخرى الى طور الشرنقة للالمام بالمحتوى الأكادمي لتخصصك ... دون احتكاك عملي حقيقي بالمرضى تحت اشراف الخبير ... ودون كلمة نافعة من الاخصائي الخطير (والذي مر بنفس اطوار التحول ونال شهادته العليا دون توظيف حقيقي لها , ودون تطبيق مفيد للمرضى.. انها فقط تلك اللوحة المهمة التي تزين عيادته الخاصة ) .... ويكتشف النائب أنه يتعلم بأسوأ طريقة ممكنة عندما يرتبط الأمر بصحة الانسان .. طريقة .... 0
trial and error
ويتمزق البائس بين لوم الضمير , ورغبته الحقيقة في التعلم , والكبرياء التي تتعاظم لتبرر أخطاءه الفادحة امام الجميع (وهو تقريبا الأمر الوحيد الذي يتعلمه من الاخصائي المتعجرف الجريء) فالطبيب منزه ولايمكن أن يخطيء , خاصة امام أهالي المرضى المتربصين , وهذا هو الدرع الوحيد الذي يحميك من شكهم , ومطاويهم , وسبابهم الحانق الرنان ... وتجد نفسك قد احترفت الجرأة واللسان الطويل ... وعندما يتساءل الجميع حولك عن انحدار مستوى الصحة , وعن حريق المسارح , وعن العبارات الغارقة , وعن القطارات الشاردة , وعن الانة في الفودافون .. تنسى أن الأمور تتدهور عندما نتوقف عن ملاحظتها , وتتوقف عن الملاحظة عندما تصدق المبررات التي اعتدت تلاوتها على الاخرين ... مسألة اقتناع داخلي ليس الا ... الا ترى؟!!! .. انك تتحول بنجاح الى الاخصائي المختفي الذي يبحث عنه الجميع
لكن لاتبك يااّرثر فلايزال هناك دوما ابوابا خلفية للهروب
الزائر ... والعدوى ... وفرعون الذي طغى
ولكي ينقذ حمامة مايمكن انقاذه , يسعى خلال فترة تسجيله للدراسات العليا الى الحصول على فترة كطبيب زائر بمستشفيات الجامعة ( أي يحصل على نيابة بالجامعة يدفع من أجلها وطبعا دون الحصول على راتب ) ... فالجامعة هي المكان الوحيد الذي يتعلم فيه النواب بالجزمة ... دعك من مزايا النائب الزائر المحتك بالاساتذة المشرفين على امتحاناته ورسالته , فيصير وجهه مألوفا لديهم ... سيحصل حمامة بالمال على فرصته الكاملة في التعلم ونيل الشهادة الكبيرة التي طالما دعت له والدته الحاجّة لنيلها
يحتك حمامة داخل أروقة الجامعة بالنائب الكبير (أو النائب السنيور بلغة الدكاترة) ... ويصبح حمامة هنا نائبا جنيور (بنفس اللغة البائسة) ... أي مرمطون القسم المنحني للجميع ... كله يهون في سبيل الشهادة الكبيرة... مباشرة العيادة الخارجية, تسجيل دخول الحالات , مرور على الأقسام , تعنيف متوسط اللهجة من السنيور ,كتابة التذاكر , مناكفة الممرضات اللبط , ثم نصف ساعة فسحة يقضيها في الحمام للتدخين والعياط , مرور مرة اخرى لأن زيادة الخير خيرين , صراع مع زملائه الجنيور الاخرين على الحالات (وغالبا يخسر هذا الصراع لأنه ليس ابن المكان .. انما هو زائر معفن) , حوار مع دكاترة الامتياز المتطلعين له بانبهار ممتع مؤقت ينسفه النائب السنيور بكلمة غليظة مؤنبة يضحك لها حمامة بعصبية مداريا احراجه المبلل بالعرق , مرور مرة ثالثة لأن زيادة الخير بلا حدود,و...,و... 0
وهنا .. يدخل رئيس القسم الاسطوري ويقتحم الكادر ... يتجمد الزمن مؤقتا وتظهر حروف يابانية أسفل الشاشة كمشهد ظهور الوحش في مسلسل جرندايزر ... ثم تعود الحركة ببطء للرجل المهم المتهادي باستهتار والذي لايرى النواب الأبرياء .. مع أن النواب أحباب الله ... لكنه في القسم , الرجل الأعلى صوتا والأطول لسانا , انه يستمتع باهانة الجميع واحراجهم ... يجلس بمكتبه المكيف ويريح كتلته الهائلة على الكرسي المنتفخ العظيم ويشخط في نائب دخل خلفه يبغي الحصول على اجازة ... ثم يغلق عينيه كأنما يرتاح من رحلة كفاح طويلة .... يتخيل ماضيه الملون بالأبيض والاسود (كناية عن الفلاش باك ) منذ كان طالبا بالكلية يسكن احراش البلاد ويرتدي الملابس الرخيصة التي لاتتغير , يسير كفتاة مراهقة خجول ناظرا للأرض تفاديا للاحراج ... اصوات زملائه ولاد الناس المرتاحين , كلكسات سياراتهم الروشة , ضحكات زميلاته الفاتنات كثيرات الماكياج والعطر تصم اذنيه , يستشعر الضحكات الساخرة موجهة اليه , ويشعر ببرودة عجيبة تجتاحه وألم غامض في كتفه كلما امتلأت نفسه حزنا وأحس بالرثاء لنفسه ... كان يعيش دور الشاب المكافح المنطوي حتى النخاح ... دائم الحضور .. مرهق العينين ... حامل الملخصات والمحاضرات ... تقدمه العلمي ملحوظ ... لكن نقطة سوداء بدأت تنمو على استحياء في قلبه وتتضخم تدريجيا وهو يستشعر المهانة يوميا في نظرات الزملاء ... وعندما تخرج وفاز بوظيفة في الجامعة ... كان قد خرج بعقدة نفسية متوقعة صقلها تعامله مع اساتذته الكبار
المياه اللي مش ولابد .. التي تحدث عنها المرحوم السادات
تعلّم أن نظام الأستاذية والقيادة شبيه بسكان في عمارة واحدة .. يلقي الطابق الأخير بقمامته على الساكن الذي يليه , الذي يقذف قمامته بدوره على التالي له ...وتكون القمامة العظمى من نصيب المقيم بالدور الأرضي الذي يليقها بغل في وجه البواب ... انهم يجيدون تفريغ احقادهم القذرة لمرؤسيهم الذين يعيدون الكرة عندما تسنح لهم الفرصة ... دورة حياة كاملة مستمرة ... سلسة غير قابلة للكسر .... عدوى لاترحم أحدا ... وعندما يعتلي هؤلاء كراسي المناصب الوثيرة .. تتبخر ذكريات المعاناة , ولايتبقى سوى حوصلة سوداء كامنة بالقلب يستمتع باعتصارها في مقره المكيف
لاتحاول تحذير حمامة يااّرثر ... ان حمامة يعرف مكان الفيروس الكامن في تلك النفوس... وينتظر الاصابة به كالقدر ... كالمسيخ الدجال الذي سيظهر بلا شك قبل نهاية العالم , ورغم كل شيء ... ربما يشكل هذا وضعا افضل له من مستشفى أبو جهل التعليمي التي يعمل بها
ان حمامة لم يتغير بعد ... لكن المؤكد انه صار يكره مصلحة التليفونات
نعتذر عن التتر ... والفقرات الاعلانية ... والاذاعات الخارجية ... ونقطع الارسال مؤقتا لحين خروج ارثر من المصحة
;