أيها الزائر قبري .... أتل ماخط امامك

Tuesday, January 15, 2008

الاغواء الأخير للعنتبلي

.d;في احتفال بسيط ... توّج العنتبلي مديرا عاما للشركة الوطنية لانتاج البلاستيك
___________________________

يقول العنتبلي في أوراقه المخفية :-0
يومي الأول في مكتب المدير
لم يتغير روتين الحياة كثيرا بعد منصبي الجديد ... لازلت اسير في ذات الطرقات بين نفس المكاتب ... فقط يختلف تصميم الكرسي الذي اجلس عليه وتتسع مساحة الحجرة لتتساوى مع اهمية الموقع الذي احتله

بدأت حياتي العملية موظفا عاديا بالشركة ... الترقّي مجرد عملية ديناميكية خاضعة للوقت وبعض الجهود والتزكية ... هي حتمية كالقدر مالم تصطدم بالمشيئة الادارية ... وكانت المشيئة الادارية تعمل لصالحي ... وهي التي جعلتني في قفزة مفاجئة نائبا للمدير السابق وذراعه اليمنى متخطيا بذلك رقابا كثيرة طالما لمحت في عيون اصحابها , الغلّ والتربص ... ثم اتت مشيئة اخرى اعلى ... المشيئة الالهية , عندما لقي المدير السابق مصرعه بين انياب الماكينات الجديدة التى سعى بنفسه لتطويرها املا في النهوض بانتاج الشركة

حادث مؤسف ... خفف قليلا من صخب الاحتفالات المعهود احتراما لذكرى العزيز الراحل .. وجعلني في ذات الوقت مديرا ومتحكما .. ومقررا لذات المشيئة الادارية التي اتت بي يوما .. اعطي وامنع ..اكافيء واعاقب ... سلطة مخيفة .. محت نظرات التربص التي لمحتها من البعض , وأتت مكانها بنظرات الاحترام والتبجيل المحلاة ببعض الرياء ... رياء لااخطيء تمييزه , لأنني اتوقعه .. ربما .. ولأنني كنت يوما ما .. واحدا من هؤلاء...لذا افهم جيدا مشاعرهم وخواطرهم ومايحدث تحت جلودهم الخشنة

لم يتغير روتين الحياة كثيرا ... لكن رؤيتي للحياة وللاخرين هي التي اختلفت

_________________________

المتجه الى الخزينة يلزم اقصى اليمين ... المتجه الى مكتب العنتبلي يلزم الأدب
تحديات الادارة ... قائمتي مزدحمة بالأعباء والأعداء ... ذهني منشغل بمحاولة التوازن والبقاء اكثر من انشغالي بسير العمل في الشركة ... ممارسة السلطة شبيهة برياضة ركوب الأمواج لممارس مستجد , المهم في الأمر الا تبدو مستجدا لأنك ستسقط مع اول موجة تثير صيحات جمهور الشاطيء .... بدأت في وضع الخطط وتنفيذها طمعا للتفرغ فيما بعد لرخاء الشركة

كانت اول خطوة هي اكتساب الارضية ... النعم الادارية تذيب الاحقاد , تصنع العبيد ان شئت ... الترقيات والمكافئات لاتكلف جيبك عبئا ... بعد ذلك تصير لقراراتك القادمة شرعية على ارضية جماعية مؤيدة ... ومن هنا اصدرت ثاني قراراتي .. تكهين الماكينات الجديدة ... العاقل من اتعظ بسلفه ... انا بصدد شراء ماكينات اخرى اكثر امانا فور ان تستقر الأمور بالشركة ... يمكن لمسيرة الرخاء ان تنتظر قليلا

كنت ارى بعين الطائر مايدور في المكاتب المعزولة خلف اكوام الملفات القديمة ... رشاوي .. عمولات .. اختلاسات ... دعارة وظيفية متكاملة .. دعارة , اعلم جيدا افرادها المنظمين,واشم رائحة فسادهم كالعرق .. ..كأكياس القمامة ... في المكاتب المعزولة بين اكوام الملفات القديمة .. حيث يتراكم الموظفون في ظلام الشقوق بعيدا عن نور الرقابة .. وبخيوط الفساد اللزجة .. يبنون بيوتهم ومخابئهم ... مملكة كاملة بين الجدران .. في المكاتب المعزولة خلف الملفات القديمة .. كثيرون .. كحشرات مختبئة في ركن بعيد .. تهاب الاقتراب منه خشية اللدغات ... لدغات لن تقتل .. لكنها لن تجعلك سعيدا

ومن هنا ظلوا يتراكمون .. ويتعاظمون .. بل ويتكلّسون .. تماما كجير الاسنان .. وصارت مملكتهم شبه منيعة على الاقتحام ... ومن هنا نشأت بيننا معاهدة غير مكتوبة .. بالا يتعدى عفنهم .. عتبة شقوقهم ولايتجاوز صدى فحشهم حد الهمس...هم ايضا حفظوا العهد.. فضمنوا البقاء ... وتظل اياديهم الموافقة وصيحاتهم المؤيدة مضمونة في صفي استخدمها لمصلحة الشركة.. خلا واحد او اكثر .. يتجاوزون الحد الامن .. فيسحقهم نعل القانون كالصراصير .. ومن اشلائهم يتصور الجميع من خارج اطراف اللعبة ان العدالة لاتعاني من عطب .. وانها تعمل بكفاءة ممتازة

قد لاتعاني العدالة من عطب .. لكن نعلها لايطال الشقوق
___________________________

انتبه من فضلك ... الشركة ترجع الى الخلف
لكن لاشيء يبقى مستقرا دون مشاكل على سطحه الهاديء .. ولا يوجد مدير دون مخاوف دائمة وهواجس خفية .. ولايوجد مايقلقني قدر الانهيار والسقوط ... لفترة توقفت عن النظر الى نفسي كفرد .. تتغير نفسيتي منذ مدة لتتواءم مع مشاعر التحكم والاحساس بالقوة الخارقة .. قوة القرارات والامضاءات والأختام .. لكن في لحظات قليلة خاصة جدا ... عندما يختفي المرؤسين , وتغلق المكاتب .. وتطفأ الأنوار .. اتذكر احاسيس البشر .. الفردية .. الضعف ... والخوف... لاشيء يجعلنا اقوياء قدر اناس تؤكد لنا ذلك ... .. تجعلنا نصدقه وتجعله يقينا .. لكني صرت مؤخرا استيقظ خلال فترات نومي المتقطعة على كوابيس .. ارى نفسي فيها وقد انسحبت من تحت قدمي سجادة الادارة .. اسقط كطفل تعثر من على عجلته المسرعة بينما جموع لاتنتهي من الناس تسعى خلفي.. تكرههني. تبغي قتلي ... وستفعل ذلك فور ان تصل الي .. وينتهي الكابوس ... ويتبقى الفزع , والعرق البارد

ازعم اني قدمت الكثير للشركة خلال فترة ادارتي ... اعتقد انها نهضت عن ذي قبل .. لكن السلطة والهم .. توأمان لايفترقان... والاحساس المستمر بأن من حولك لايرون ماترى .. لايشعرون بان الأمور أفضل .. هذا الاحساس يلازمني كرجفة الشتاء ... احساس يملأك بالكابة ... ويجعلك تعادي هؤلاء الذين لايعجبهم سير الامور ... صرت اكرههم , اكره تحفظهم وحماسهم المنطفيء عندما نتحدث عن انجازات الشركة ...و صار ضجيج الماكينات التي كهنتها يوما يعلو بصورة غريبة ... هاجس اخر يضاف الى قائمة الكراهية

ويبدو ان نفسيتي تنعكس على أداء الشركة... صارت الكراهية سافرة بين موظفيها. كأنما انقسموا الى فريقين متناحرين ... فريق المقربين , وفريق المبعدين .. فريق يفوز بالحوافز والعلاوات والترقيات السريعة .. وفريق اخر يلعن ماالت اليه الشركة ويعلن عن نفسه باستمرار في صندوق الشكاوي .. طعنات متبادلة بالاتهامات...وسباب بلغة ادارية محنكة ... فوضى ... احيانا يخيل الي ان الكل قد نسي عمله الحقيقي بالشركة وصار عمله الجديد هو اثبات الذات ... لم اعرف منذ الوهلة الأولى ان الصراع صراع بقاء .... لكن الامور تغدو اكثر وضوحا .. عندما يتحدث الموظفون باستمرار عن المرتبات الزهيدة .. وخط الانتاج المنحدر .. ويصرخون معلنين عن فساد زملائهم .. ويحاربون كمجرمين سعيا خلف مكاسب هزيلة يحسبونها نعيما مقيما

عندما يبلغون هذا الحد من الغضب والكراهية والسعار والرفض ... فهم يناضلون من اجل البقاء .. لأنهم اكتشفوا انهم في واقع الأمر ... يحتضرون
__________________________

لمن أترك كل هذا ....؟
شيء غامض جعلني ابقى على كرسي المدير ... ربما هو مزيج معقد صنعه احتراف الادارة ,مع ارضية ثابتة اجدت تخطيطها , مع خوف الموظفين المستمر من التغيير .. مما يجهلون ... مهما سخطوا وتذمروا ... لم يفكروا حقا في مدير جديد .. ربما لأنهم لايعلمون واحدا ... لم يعودوا يرون سوى السواد ... ولم تشم انوفهم سوى العفن ... ولم تعتد اذانهم الا على احاديث الخيانة والسرقة , ادمنوا عالمهم المقرف كما يدمنون سجائرهم بكل ماتفعل بهم من سعال ومرض ... امر غامض جعلهم يباركون استمراري مديرا لشركتهم الدورة تلو الاخرى

تبلى الكراسي .. وتشيخ الوجوه .. وتتحول الشركة امام عيني من مصلحة تدار .. الى بيت األفه وأحفظ أركانه ... ... احس خصوصية جدرانه وماتحويه من مكاتب وموظفين وملفات ... كأنما هي أشياء تمتلك بحكم الأقدمية وتنضم الى ميدالية المفاتيح ... الأقدمية تصنع الألفة
هناك أشياء تتم دون تخطيط ... كأن أبدأ في اصطحاب ابني الى الشركة ... يقضي بها الساعات يدور بين المكاتب ويداعب الموظفين ... كان مروره متقطعا في البداية ثم مالبث ان صار شبه يومي .. وقد شجعه الترحيب الحار , و الاحترام الفائق الذي يلقاه .. واحساس منطقي بهيمنة والده المطلقة على عالم الشركة
في البدء شجعته على الاقتراب من هذا العالم ... ومعرفة خباياه ... ثم بدأت بذرة صغيرة تنمو داخلي على استحياء ... كأنما ابغي ترك جزء من ذاتي في هذا المكان ... تشجيع الموظفين المقربين جعل الفكرة تختمر في رأسي وتصبح هدفا تصنع له القرارت ... من قد يدير شركتي افضل من واحد من صلبي ؟

قمت بتسريب شائعات في أرجاء الشركة بهذا الخصوص طمعا في جس النبض .. لازالت تصلني بكفاءة أحاديثهم الخفية ورفضهم , وحتى نكاتهم اللاذعة ...لكن الالحاح يصنع المعجزات ...ومايكرهه الناس اليوم , قد يقبلوه واقعهم غدا .. فقط اذا مادأبت على ترديده .. كأنما هي تعويذة سحرية تستمد قوتها من التكرار .. ورويدا رويدا , رأيت الموظفين يتحولون من الرفض المجنون , الى عدم الاستساغة , الى تقبل الواقع ببقايا سخرية .. صفقة أخرى غير مكتوبة عقدتها بينهم في صمت ... سيتركون لي القرار المطلوب .. وسأترك لهم سخريتهم ونكاتهم وثرثرتهم الفارغة بين المكاتب ..صفقة كتلك التي عقدتها يوما مع الفاسدين منهم طمعا في مزيد من الاستقرار

اليوم ... صار ابني واقعهم الذي لامفر منه

_______________________

الاغواء الأخير
شيء واحد اعتبرت نفسي عاجزا عن تحقيقه ... الخلود ... لاشيء يدوم للأبد ... التجاعيد, والشعر الأبيض , الارهاق المستمر الذي يداهمك عندما تبذل ذات المجهود الذي كنت تبذله قبلا دون أن تلاحظ ...انني حقا أشيخ ... ومعي تشيخ القرارت والأختام والعقلية الادارية الجبارة التي حسبتني أمتلكها

لازلت أسمع لهمس الموظفين خلف مكاتبهم ... يتحدثون عن الرحيل , والمدير المنتظر , يتصورون شكل المستقبل من بعدي ... كلامهم يصيبني بالمرض أكثر ... لا , ليست الأمور بتلك السهولة

حرصت على أن أبدو امامهم في أتم صورة وصحة ... أنا لاأمرض , ,لاأرهق , لاأشيخ ... أنا صورة دائمة الشباب .... صحيح أني لم أعد اظهر كثيرا أمامهم كالسابق ... لكنهم يعلمون أن العنتبلي دوما في مكتبه ... باق بالشركة ... يراهم من حيث لايشعرون
صورة ضبابية تتكون أمام عيني ... لم اعد ارى جيدا ... الصحة , والعمر ... تلك امور لاتصطنع ... الخوف ... لم يحن وقت الرحيل بعد ... لاأعرف عالما اخر احيا به سوى مكتب المدير ... لاأعرف زمنا ارغب في البقاء به سوى الأبد ,لأنني لم أعتد تغيير الأمور ... المرض والعمر ... يلتهمان المرء كلهب شمعة لم يبق من فتيلها الا الذبول

الخوف ثانية ... حديث الموظفين ثقيل مسموم ... ينتظرون كأنهم ضباع جائعة حول أسد مريض

مع انفاسي المتثاقلة ... بدأت اعرف الاغواء الأخير الذي قدمه لي كرسي الادارة بعد القوة, والتحكم , ولذة الرؤية بعين الطائر , الاغواء الذي يتراكم في النفس ببطء ... ليحولني الى ماصرت عليه الان ... شيخ يعجز عن ترك مكانه , يحارب لاثبات انه لازال حيا , وسيبقى

كالجدران والتاريخ واحجار الماضي ... سيبقى

كسليمان على عصاه يخيف الجان ... سيبقى

الاغواء الحقيقي ان تعجز عن ترك الكأس ... لأنك شربته حتى الثمالة
لازلت اسهر في مكتبي حتى وقت متأخر من الليل .. ذهني يتشوش اكثر , واعجز عن الرؤية دون النظارة التي أرتديها فقط عندما اختلي بنفسي , ورغم سمعي الذي يضعف يوما بعد يوم ...الا انه لازالت تصلني بانتظام همسات الموظفين , ونكاتهم ,و ضجيج مزعج صادر عن المخازن ... حيث الماكينات الجديدة التي كهنتها يوما
;